الخميس، 6 أكتوبر 2016

رواية- ظل يكسره الضوء ٤

إن المجتمع الذي يمارس إيمانه كـ بريستيج اجتماعي هو مجتمع لا يثق بنفسه ، الصلاة أصبحت بريستيج ، الزكاة أصبحت كذلك ، وأمور كثيرة من هذا النوع أصبحت إكسسوارات اجتماعية . العالم يتقدم ونحن نقف في أماكننا  نقرأ التاريخ ، تاريخ الفتوحات الإسلامية ، وتاريخ الدولة الأموية ، والدولة الفاطمية ، ومجالس الغلمان ومجالس الخمر ، ومجالس الجواري ، والمصيبة الكبرى اننا لازلنا نفكر في سبب سقوط الأندلس . الاندلس لم تسقط أنما نحن الساقطون ! هذا من حظ أهل أسبانيا فلو أننا لازلنا نسيطر عليها لحولناها إلى جزائر أخرى أو ليبيا أخرى . لازلنا نقرأ البداية والنهاية لابن كثير وطوق الحمامة للجوزي وقصائد أبو نواس وملاحم الحب العذري . إنها مصيبة ان نرى العالم يتقدم ونحن ننظر إلى أقدامنا ! إلى الآن لم تجف دموعنا على مكتبة بغداد التي دمرها المغول ، لازلنا نشكك في تاريخ الظاهر بيبرس وحكم المماليك للعرب ونصرح أنها خيانة سببها النساء وغلطة إسمها شجرة الدر . اللعنة على التاريخ الذي يقف عقبة بين الإنسان والتقدم ، العالم يتقدم وعلمائنا يجتمعون كي يتفقوا على أن الدخان يبطل الوضوء أم لا .  يجب أن نحترم العقل !

 

 

بعد لقائي الأول مع ( عليٌ ) كان يجب أن أوثق لقائنا التالي بمشكلة كي تتوطد العلاقة بيننا . في اليوم التالي أمسكت بصلاح ، وهذا المسكين عندما رآني كان يظن أنني أريد أن أعانقه ، أمسكت به ووضعت رجلي خلفه وطرحته أرضا ً وانهلت عليه بلكمات اعتقد انه لن يأكل مثلها بعد اليوم وأنه لم يأكل مثلها قبل اليوم ، كنت أعلم ان ( عليٌ ) سيمر من هذا الطريق ، وحياة صلاح تتوقف على مرور ( عليٌ )  بعد أقل من دقيقة مر من قربنا وصدم مما رآه . كاد صلاح أن يموت بين يدي وعلي ٌ يترجاني أن اتركه . دعني ألقنه درس لن ينساه اتركني لن ادعه حتى يموت هذا ما كنت أصرخ به وعليُ يكاد يقبل رجلي كي اتركه . اعتقد انه الآن سيتمنى أن أكون من أصدقائه . وكان ما تمنيت أن يكون ، الآن عليٌ لا يستطيع أن يجعل اليوم يمر دون أن يراني . توطدت علاقتي مع هذا المجرم الصغير واكتشفت عالم الضياع وعالم النوم خارج البيت ، اكتشفت عالم العادة السرية معه مارسنا العادة السرية معاً تخيلنا أننا نضاجع نساء شقراوات ، دخلت مع عليُ أول أيام المراهقة . الحياة جميلة هكذا ، لا أشعر بشيء  أحس بأنني مخدر . إلى متى ستظل هذه الحياة هكذا ؟ أشعل شمعة أفضل من أن تلعن الظلام . بالرغم من المدى الإصلاحي الذي يتمركز في لب هذه المقولة إلا انني لا أتفق معها . فأنت عندما تلعن الظلام أفضل من ان تلعن نفسك ! أتممت العاشر من عمري بتاريخ 17 / 7 /1990 أي قبل الغزو العراقي لدولة الكويت بخمسة عشر يوماً ، الساعة السادسة صباحاً تطرق علينا جارتنا أم سالم الباب وهي تصرخ كنا نعتقد أن أبو سالم عاد لضربها ، للأمانة لم نكن نعلم عن المصيبة التي حصلت . أبي كان في عمله ، امي المسكينة وحيدة في هذه المصيبة كنت أقف بقربها عندما ألقت أم سالم على مسامعها هذا الخبر ، كنت أقف مع اخوتي بقربها عندما سمعت الخبر . لم تكن هناك ردة فعل هستيرية  ، أول ما فعلت هو أن نظرت إلينا نظرة جامدة وشفافة جداَ ترى ما خلفها ولكنك لا تستطيع أن تمر من خلالها ! نظره بها من سوء الحظ ما يجعلك تستثمر الوقت المتبقي لك في حفر قبرك ، تخيل انك تريد آن تقطع الصحراء على فرس ومعك أمتعتك ، أن مشيت في الطريق الصحيح ستصل بعد تسعة أيام ، وإن ظللت الطريق ستصل بعد نصف شهر . وأنت في منتصف الطريق تأتى عاصفة رملية شديدة تجعلك تضل الطريق ، وتكمل مسيرتك وأثناء المسير تنكسر رجل الفرس ، وتأخذ أمتعتك وتكمل الرحلة ماشياً على الأقدام ، وبعد مسيرة يوم تكتشف أنك نسيت الماء والطعام عند فرسك المكسور . إن عدت هلكت قبل أن تصل ، وإن أكملت أنت هالك لا محال . ماذا ستفعل في مثل هذا الموقف ؟ كان اليأس المتسربل في عيني يختصر هذه المأساة . كان بودي أن أقول لها ماذا ستفعلين الآن يا سيدة ( مطبخ ) ؟ هل ستقشرين البصل منتظرة أبي ، أم انك ستلتحقين بالمقاومة ! أم سالم أخبرت أبو سالم بان جارة ليس موجود وأننا نحتاج إلى المساعدة ، تكرم أبو سالم على إيصالنا إلى بيت خالتي ، ولكننا لم نجدها في البيت ، وطلبت منه أمي أن يوصلنا إلى بيت عمي . والحمد لله أننا وجدناهم في البيت  شكرته أمي كثيراً وأنزلنا في بيت عمي . أمي لم تأخذ معها من بيتنا سوى الأوراق الرسمية وذهبها ، كانت تضن أمي أن العراق غزا الكويت بسبب ذهبها وأرادت أن تردهم خائبين . جلسنا في بيت عمي يومين ولم يرد خبر عن أبي ، عمي لم يكن يريد الخروج كان يقول : أن الغزو لن يطول اكثر من أسابيع . لهذا أمي طلبت منه أن يوصلنا إلى بيت خالتي نوره ، وعند وصولنا لهم كانوا يتجهزون للرحيل وبسرعة توزعنا أنا واخوتي وأمي في السيارات التي كانت ممتلئة للآخر . لم اكن اعي ما يحدث رغم نشرات لأخبار التي نسمعها في بيت عمي ورغم الدبابات والطائرات الكثيرة لم اكن على وعي تام بما هو حاصل خرجنا من الكويت في يوم الأحد وبالتحديد في صباح يوم الأحد ، كانت الشوارع ملئا بالبشر . كنا في طريقنا إلى السعودية منفذ الرقعي كان الطريق ملئ بالدبابات والجنود العرقيين ، لم تصادفنا مشاكل في الطريق إلى ان وصلنا إلى منفذ الرقعي ، كان هناك بحر من البشر يريدون الهرب . كانت طريقة الخروج عشوائية وسريعة بعد أن دخلنا إلى السعودية توجهنا إلى مدينة حفر الباطن ولجأنا إلى المدارس التي فتحت كي نقيم فيها ، إنها مصيبة كنت اهرب من المدرسة والآن أنا أسكن في مدرسة . كيف سأحتمل هذا الأمر ؟

 

كان الشعب السعودي يوزع الأكل في المدارس وفي المساجد وفي الشوارع ، كنت أظن أننا هربنا من الجوع  بسبب هذا الكم الهائل من الأكل ! كان لنا أقرباء في مدينة الحفر ولكن أمي لم تشأ أن تترك أختها قبل وصول أبي  الجميع مجتمعون . في الأكل مجتمعون ، في اللعب مجتمعون ، في النوم مجتمعون في كل شيء هم مجتمعين . المأساة زادت من الترابط الوطني . كنا نتسكع في المدرسة بين الفصول ، الحياة كانت مرتجلة في ذلك الوقت ، كنا نحتاج للقليل من الوقت كي نرتب أنفسنا . في الهزيع الأول من الليل يرتفع الدعاء ، وبعد منتصف الليل يرتفع الشخير !

 

حفر الباطن مدينة القطب الواحد مدينة أضواء الشوارع الخاوية ، مدينة تقع في منخفض المدى الواقع بين الإنسان ومسقط الرأس تقع في عمق الشعور بالغربة  ، مدينة بدائية سقطت سهوا بخطأ جغرافي . مدينة أغلب شوارعها رملية مليئة بالغبار ، مجتمع متحفظ إلى أقصى الحدود ، وجه المرأة عورة ، صوت المرأة عورة ، شكل المرأة عورة ، تاء التأنيث عور ، كان وأخواتها عورة ، كل شيء له صلة بالمرأة عورة . المرأة في حفر الباطن تشبه الشجرة المحرمة التي أخرجت والدنا آدم عليه السلام من الجنة . مجتمع موغل في التفرقة الجنسية المرأة تولد في البيت وتموت في البيت ، مجتمع يحتسي الشاي بشكل ملفت للنظر ،الصغار من الأولاد يرتدون الشماغ والدشداشة ، والصغار من البنات يرتدن العباءة وغطاء الوجه . مجتمع لأول مرة في حياته يرى امرأة شقراء في الشارع ، وكان هذا عند دخول الجيش الأمريكي إلى السعودية بصدد تحرير الكويت من الغزو العراقي الجائر . تسبب دخول الجيش الأمريكي في حفر الباطن إلى زعزعة التركيبة الاجتماعية ، مما جعل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستنفر بكامل وجدانها لمحاربة هذا السفور الدخيل على المجتمع . كان الجيش الأمريكي يوزع على البشر أفكاره ومعتقداته ومؤنه ، الكيت كات والوجبات الجاهزة من لحوم الخنازير والخمر وأشياء كثيرة من حضارته ، ومن الأمور المضحكة أن أحد أفراد الجيش الأمريكي أعطى أحد أبناء الشعب السعودي زجاجتي خمر . وأراد الأخير الاستفادة من هذه الأشياء مع جهله بماهيتها فذهب الأخير إلى السوق لبيعها على أنها ( شامبو ) للاستحمام ! فتم القبض عليه من قبل الهيئة بتهمة الاتجار بمواد مسكرة . الحياة أصبحت عبارة عن اصطدام بين المجتمعات وبين الأفكار وبين الكثير من الأشياء البسيطة ، كانت الحياة تقف على الهاوية لا يفصل بينها وبين الوقوع سوى خط هزيل اسمه الأمل . بعد شهر ونصف من الغزو استطاع أبي الهرب من بنادق الغزاة ، كانت رحلت البحث عنا والبحث عن طريق للخروج هي الشغل الشاغل لأبي ، بحث عنا لدي كل من يتوقع ان نلجأ إليهم ، كان الاحتمال الأخير لأبي هو أننا خرجنا إلى السعودية . الطرق مغلقة الكثير من العائلات غضت نحبها في الصحراء وهي تبحث عن طريق للخروج ، كان أبي يتحدث عن رائجة الموت المنتشرة هناك ، عن السيارات التي وجدها في طريق الهرب وهي ممتلئة بالبشر الموتى . بسبب ندرة البنزين أبي خرج من الموت ماشيا على الأقدام . كان أبي يعرف الطريق جيداً ، كان يختبأ في النهار ويتحرك في الليل ، لم يكن الطريق طويلاً ولكن الخوف أطال المسافة الماء والخبز كانا كل ما يملك أبي لهذه الرحلة . بعد ليلتين ونص الليلة وصل أبي إلى الحدود وسلم نفسه إلى أقرب دورية حدود مرت به . في اليوم الرابع من هرب أبي رأيناه ، كنت أول من رآه كنت أتسابق مع دموعي عندما رأيته . ماذا فعلت بك الحياة ؟ إلى هذه الدرجة هي متوحشة . كان أبي عبارة عن شبح لم يبقى منه سوى العظم مع بعض الجلد . لم يكن أحد يشعر بالسعادة مثل التي كانت تشعر بها أمي ، كانت تبكي وتضحك كالمجنونة اختلطت عليها المشاعر في هذا الوضع المؤلم ، كانت أمي منتظرة خبر استشهاد أو أسر أبي مثل الأخبار التي ترد من هناك . كان العشاء الأول الذي تأكله أمي وهي مطمئنة ، اعتقد أن أمي ستنام وهي أسعد امرأة في هذا الحزن . في اليوم التالي من عودة أبي أتى الكثير من المعارف للسلام عليه والسؤال عن أشخاص انقطعت أخبارهم هناك حيث الموت المنبعث من كل مكان ، كنت استرق السمع لأبي عندما يتحدث مع الآخرين عن مراكز التعذيب نقاط السيطرة وبنادق الغزاة وغلاء السجائر  عن الظلم الوقع هناك عن الموت المستورد من بغداد ، عن صرخات الألم عن الجوع عن الخوف عن كل شيء له صلة بالشر . هل امتلأت بغداد بالموت حتى تصدروه إلى دول الجوار ؟ هل ضاقت بكم كربلاء ونينواى والبصرة حتى تأتون حمليه على فوهات بنادقكم ؟ هل ضقت بكم بغداد والناصرية والرمادي حتى تحملوه إلينا مع دباباتكم ؟ هل مللتم قتل العراقيين ؟ هل مللتم قتل أنفسكم حتى تأتون لقتلنا . أمي أرادت أن تستريح بعد عودت أبي من الموت ، ما تحملته أمي في الأيام السابقة يعادل كل لحظة سعادة عاشتها في ما سبق من عمرها . كان الشيب هو أهم درس آخذته أمي من الغزو . الحياة مليئة بالألم ولهذا يجب على الإنسان أن يستغل إي لحظة سعادة تمر به . عندما رحل جلجامش باحثاً عن الحياة الأبدية مر على كاهنة أخبرته أن الحياة الأبدية شيء غير موجود .  طلبت منه أن يكف البحث عن هذا الوهم : عد يا جلجامش ، فالذي خلق الحياة لم يشأ أن يجعله أبدية ! عد إلى أبنائك وزوجك ولا تجعل الموت يأتيك وأنت حزين ، ابتسم وأنت تقبل زوجتك ، اضحك وأنت تحتضن أولادك . إن الحياة لا تستحق أن نعيشها ونحن نشعر بالحزن .

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق